سورة فصلت - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


المعنى: فإن أعرضت قريش والعرب الذين دعوتهم إلى الله عن هذه الآيات البينة، فأعلمهم بأنك تحذرهم أن يصيبهم من العذاب الذي أصاب الأمم التي كذبت كما تكذب هي الآن.
وقرأ جمهور الناس: {صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} وقرأ النخعي وأبو عبد الرحمن وابن محيصن {صعقة مثل صعقة}، فأما هذه القراءة الأخيرة فبينة المعنى، لأن الصعقة: الهلاك يكون معها في الأحيان قطعة نار، فشبهت هنا وقعة العذاب بها، لأن عاداً لم تعذب إلا بريح، وإنما هذا تشبيه واستعارة، وبالوقيعة فسر هنا الصاعقة، قال قتادة وغيره. وخص عاداً وثمود بالذكر لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام.
وقوله: {من بين أيديهم} أي قد تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود، وبهذا الاتصال قامت الحجة.
وقوله: {من خلفهم} أي جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدم وجودهم في الزمن، فلذلك قال: {ومن خلفهم} وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمَّتهم خبراً ومباشرة، ولا يتوجه أن يجعل {ومن خلفهم} عبارة عما أتى بعدهم في الزمن، لأن ذلك لا يلحقهم منه تقصير، وأما الطبري فقال: الضمير في قوله: {ومن خلفهم} عائد على الرسل، والضمير في قوله: {من بين أيديهم} على الأمم، وتابعه الثعلبي، وهذا غير قوي لأنه يفرق الضمائر ويشعب المعنى. و{أن} في قوله: {ألا تعبدوا} نصب على إسقاط الخافض، التقدير: بأن. و{تعبدوا} مجزوم على النهي، ويتوجه أن يكون منصوباً على أن تكون {لا} نافية، وفيه بعد. وكان من تلك الأمم إنكار بعثة البشر واستدعاء الملائكة، وهذه أيضاً كانت من مقالات قريش.
وقوله: {فإنا بما أرسلتم به} ليس على جهة الإقرار بأنهم أرسلوا بشيء، وإنما معناه على زعمكم ودعواكم. ثم وصف حالة القوم، وأن عاداً طلبوا التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق، بل بالكفر والمعاصي وغوتهم قوتهم وعظم أبدانهم والنعم فقالوا على جهة التقرير: {من أشد منا قوة} فعرض الله تعالى موضع النظر بقوله: {أو لم يروا} الآية، وهذا بين في العقل، فإن للشيء المخترع له المذهب متى شاء هو أقوى منه، وأخبر تعالى عنهم بجحودهم بآياته المنصوبة للنظر والمنزلة من عنده، إذ لفظ الآيات يعم ذلك كله في المعنى.


روي في الحديث أن الله تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا على عاد منها مقدار حلقة الخاتم، ولو فتحوا مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا: وروي أن الريح كانت ترفع العير بأوقارها فتطيرها حتى تطرحها في البحر. وقال جابر بن عبد الله والتيمي: حبس عنهم المطر ثلاثة أعوام، وإذا أراد الله بقوم شراً حبس عنهم المطر وأرسل عليهم الرياح.
واختلف الناس في الصرصر، فقال قتادة والسدي والضحاك: هو مأخوذ من الصر، وهو البرد، والمعنى: ريحاً باردة لها صوت. وقال مجاهد: صرصر: شديدة السموم. وقال الطبري وجماعة من المفسرين: هو من صر يصر إذا صوت صوتاً يشبه الصاد والراء، وكذلك يجيء صوت الريح في كثير من الأوقات بحسب ما تلقى.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى والنخعي: بسكون الحاء وهو جمع نحس، يقال يوم نحس، فهو مصدر يوصف به أحياناً وعلى الصفة به جمع في هذه الآية، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله: {يوم نحس مستمر} [القمر: 19]. وقال النخعي: {نحسات} وليست ب نحِسات بكسر. وقرأ الباقون وأبو جعفر وشيبة وأبو رجاء وقتادة والجحدري والأعمش: {نحِسات} بكسر الحاء، وهي جمع لنحس على وزن حذر، فهو صفة لليوم مأخوذ من النحس. وقال الطبري: نحس ونحس لغتان، وليس كذلك، بل اللغة الواحدة تجمعهما، أحدهما مصدر، والآخر من أمثلة اسم الفاعل، وأنشد الفراء: [البسيط]
أبلغ جذاماً ولخماً أن إخوتهم *** طيا وبهراء قوم نصرهم نحس
وقالت فرقة: إن {نحْسات} بالسكون مخفف من {نحِسات} بالكسر، والمعنى في هذه اللفظة مشاييم من النحس المعروف، قاله مجاهد وقتادة والسدي: وقال الضحاك معناه: شديدة، أي شديدة البرد حتى كان البرد عذاباً لهم. قال أبو علي: وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد:
كأن سلافة عرضت بنحس *** يحيل شفيفها الماء الزلالا
وقال ابن عباس: {نحسات} معناه: متتابعات، وكانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وعذاب الخزي في الدنيا هو العذاب بسبب الكفر ومخالفة أمر الله، ولا خزي أعظم من هذا إلا ما في الآخرة من الخلود في النار.
وقرأ جمهور الناس: {ثمودُ} بغير حرف، وهذا على إرادة القبيلة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب: {ثمودٌ} بالتنوين والإجراء، وهذا على إرادة الحي، وبالصرف كان الأعمش يقرأ في جميع القرآن إلافي قوله: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} [الإسراء: 59] لأنه في المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق والأعرج بخلاف، والأعمش وعاصم {ثمودَ} بالنصب، وهذا على إضمار فعل يدل عليه قوله: {فهديناهم}، وتقديره عند سيبويه: مهما يكن من شيء فهدينا ثمود هديناهم، والرفع عنده أوجه، وروي عن ابن أبي إسحاق والأعمش: {ثموداً} منونة منصوبة، وروى الفضل عن عاصم الوجهين.
وقوله تعالى: {فهديناهم} معناه: بينّا لهم، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد، وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبينة لليهود والنصارى المختلطين لنا ولكنهم يعرضون ويشتغلون بالصد، فذلك استحباب العمى على الهدى.
وقوله تعالى: {فاستحبوا} عبارة عن تكسبهم في العمى، وإلا فهو بالاختراع لله تعالى، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله تعالى: {بما كانوا يكسبون}.
وقوله تعالى: {العذاب الهون} وصف بالمصدر، والمعنى الذي معه هوان وإذلال، ثم قرن تعالى بذكرهم ذكر من آمن واتقى ونجاته ليبين الفرق.


قوله تعالى: {ويوم} نصب بإضمار فعل تقديره: واذكر يوم.
وقرأ نافع وحده والأعرج وأهل المدينة: {نحشر} بالنون {أعداءَ} بالنصب، إلا أن الأعرج كسر الشين. وقرأ الباقون: {يُحشر} بالياء المرفوعة، {أعداءُ} رفعاً، وهي قراءة الأعمش والحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وقتادة وعيسى وطلحة ونافع فيما روي عنه، وحجتها {يوزعون}، و: {أعداء الله} هم الكفار المخالفون لأمره.
و: {يوزعون} قال قتادة والسدي وأهل اللغة، معناه: يكف أولهم حبساً على آخرتهم، وفي حديث أبي قحافة يوم الفتح: ذلك الوازع. وقال الحسن البصري: لا بد للقاضي من وزعة. وقال أبو بكر: إني لا أقيد من وزعة الله تعالى. و: {حتى} غاية لهذا الحشر المذكور، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم فإن الله تعالى يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فينكرون ذلك ويحسبون أن لا شاهد عليهم، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار، فينطق الله تعالى جوارحهم بالشهادة عليهم، فروي عن النبي عليه السلام «أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه الأيسر ثم تنطق الجوارح،» فيقول الكافر: تباً لك أيها الأعضاء، فعنك كنت أدافع. وفي حديث آخر: «يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام فيتكلم الفخذ والكف» ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم: {لم شهدتم علينا} أي وعذابنا عذاب لكم.
واختلف الناس ما المراد بالجلود؟ فقال جمهور الناس: هي الجلود المعروفة. وقال عبد الله بن أبي جعفر: كنى بالجلود عن الفروج، وإياها أراد. وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم.
وقوله: {أنطق كل شيء} يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة.
قوله عز وجل: {وما كنتم تستترون} يحتمل أن يكون من كلام الجلود ومحاورتها، ويحتمل أن يكون من كلام الله عز وجل لهم، أو من كلام ملك يأمره تعالى. وأما المعنى فيحتمل وجهين أحدهما أن يريد: وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر خوف أن يشهد، أو لأجل أن يشهد، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم فانهملتم وجاهرتم، وهذا هو منحى مجاهد. والستر قد يتصرف على هذا المعنى ونحوه، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
والستر دون الفاحشات وما *** يلقاك دون الخير من ستر
والمعنى الثاني أن يريد: وما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد، وهذا هو منحى السدي، كأن المعنى: وما كنتم تدفعون بالاختفاء والستر أن يشهد، لأن الجوارح لزيمة لكم، وفي إلزامه إياهم الظن بأن الله تعالى لا يعلم، هو إلزامهم الكفر والجهل بالله، وهذا المعتقد يؤدي بصاحبه إلى تكذيب أمر الرسل واحتقار قدرة الإله، لا رب غيره.
وفي مصحف ابن مسعود: {ولكن زعمتم أن الله}. وحكى الطبري عن قتادة أنه عبر عن {تستترون} ب تبطنون، وذلك تفسير لم ينظر فيه إلى اللفظ ولا ارتباط فيه معه. وذكر الطبري وغيره حديثاً عن عبد الله بن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة إذ دخل ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم، فتحدثوا بحديث، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ قال الآخر إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا أخفينا. وقال الآخر: إن كان يسمع منه شيئاً فإنه يسمعه كله، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فنزلت هذه الآية: {وما كنتم تستترون} الآية، فقرأ حتى بلغ: {وإن تستعتبوا فما هم من المعتبين} [فصلت: 28]. وذكر النقاش أن الثلاثة: صفوان بن أمية وفرقد بن ثمامة وأبو فاطمة. وذكر الثعلبي أن الثقفي: عبد ياليل، والقرشيان: ختناه ربيعة وصفوان ابنا أمية بن خلف، ويشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلاً بها عند إخبار عبد الله إياه، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5